سورة ق - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ق)


        


قوله تعالى: {ق} قرأ الجمهور: بإسكان الفاء. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء، {قافَ} بنصب الفاء. وقرأ أبو رزين، وقتادة، {قافُ} برفع الفاء. وقرأ الحسن، وأبو عمران، {قافِ} بكسر الفاء. وفي {قاف} خمسة أقوال.
أحدها: أنه قسم أقسم اللهُ به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: أنه جبل من زَبَرْجَدة خضراء، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: خَلَقَ اللهُ جبلاً يقال له قاف محيط بالعالم، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد اللهُ عز وجل أن يزلزل قرية، أمر ذلك الجبل فحرَّك العرق الذي يلي تلك القرية. وقال مجاهد: هو جبل محيط بالأرض. وروي عن الضحاك أنه من زمردة خضراء، وعليه كَنَفَا السماء، وخُضرة السماء منه.
والثالث: أنه جبل من نار في النار، قاله الضحاك في رواية عنه عن ابن عباس.
والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.
والخامس: أنه حرف من كلمة. ثم فيه خمسة أقوال.
أحدها: أنه افتتاح اسمه قدير، قاله أبو العالية.
والثاني: أنه افتتاح أسمائه: القدير، والقاهر، والقريب، ونحو ذلك. قاله القرظي.
والثالث: أنه افتتاح قُضي الأمرُ، وأنشدوا:
قُلنا لها قِفِي فقالتْ قافْ ***
معناه: أقف، فاكتفت بالقاف من أقف، حكاه جماعة منهم الزجاج.
والرابع: قف عند أمرنا ونهينا، ولا تَعْدُهُما، قاله أبو بكر الورّاق.
والخامس: قُلْ يا محمد، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: {والقرآنِ المَجيدِ} قال ابن عباس، وابن جبير: المَجيد: الكريم. وفي جواب هذا القسم أربعة أقوال.
أحدها: أنه مُضمر، تقديره: لَيُبْعَثُنَّ بَعْدَ الموت. قاله الفراء، وابن قتيبة، ويدُلُّ عليه قولُ الكفار: {هذا شيءٌ عجيبٌ}.
والثاني: أنه قوله: {قد عَلِمْنا ما تَنْقُص الأرضُ منهم}، فيكون المعنى: قاف والقرآنِ المجيدِ لقد عَلِمْنا، فحُذفت اللاّمُ لأنّ ما قبْلَها عِوَضٌ منها، كقوله: {والشَّمسِ وضُحَاها... قد أفلح} [الشمس: 1-9] أي: لقد أفلح، أجاز هذا القول الزجاج.
والثالث: أنه قوله: {ما يَلْفِظُ من قول}، حكي عن الأخفش.
والرابع: أنه في سورة أُخرى، حكاه أبو سليمان الدمشقي، ولم يبيِّن في أي سورة.
قوله تعالى: {بَلْ عَجِبوا} مفسَّر في [ص: 4] إلى قوله: {شيءٌ عجيبٌ} أي: مُعْجِبٌ.
{أئذا مِتْنا} قال الأخفش: هذا الكلام على جواب، كأنه قيل لهم: إنكم ترجعون، فقالوا: أئذا متنا وكنا ترابا؟ وقال غيره: تقدير الكلام: ق والقرآنِ لَيُبْعَثُنَّ، فقال: أئذا متنا وكنا تراباً؛ والمعنى: أنُبْعَث إذا كنا كذلك؟! وقال ابن جرير: لمّا تعجَّبوا من وعيد الله على تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا شيء عجيب، كان كأنه قال لهم: ستعلمون إذا بُعثتم ما يكون حالُكم في تكذيبكم محمداً، فقالوا: أئذا متنا وكنا ترابا؟!
قوله تعالى: {ذلك رَجْعٌ} أي: ردٌّ إلى الحياة {بعيدٌ} قال ابن قتيبة: أيْ: لا يكون.
{قد عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأرضُ منهم} أي: ما تأكل من لحومهم ودمائهم وأشعارهم إذا ماتوا، يعني أن ذلك لا يَعْزُب عن عِلْمه {وعندنا} مع عِلْمنا بذلك {كتابٌ حفيظٌ} أي: حافظ لعددهم وأسمائهم، ولِما تَنْقُص الأرضُ منهم، وهو اللوح المحفوظ قد أُثبت فيه ما يكون.
{بل كذَّبوا بالحق} وهو القرآن. والمَريج: المختلِط قال ابن قتيبة: يقال: مَرِج أمرُ الناس، ومَرِج الدِّينُ. وأصل هذا أن يَقْلَق الشيء، ولا يستقر، يقال: مَرِج الخاتم في يدي، إذا قلق، للهُزَال. قال المفسرون: ومعنى اختلاط أمرهم: أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: مَرَّة: ساحر، ومرة شاعر، ومرة مُعَلمَّ، ويقولون للقرآن مرة: سحر، ومرة: مُفْتَرى، ومرة: رَجَز، فكان أمرُهم ملتبساً مختلطاً عليهم.


ثم دلَّهم على قُدرته على البعث بقوله: {أفلم ينظُروا إلى السماء فوقَهم كيف بنيناها} بغير عمد {وزيَّنَّاها} بالكواكب {وما لها من فُروج} أي: من صُدوع وشُقوق. والزَّوج: الجنس. والبهيج: الحَسَن، قاله أبو عبيدة، وقال ابن قتيبة: البهيج: الذي يُبْتَهَج به.
قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وذكرى لكل عبد منيب} قال الزجاج: أي: فَعَلنا ذلك لِنُبَصِّر ونَدُلَّ على القُدرة. والمُنيب: الذي يَرْجِع إلى الله ويفكِّر في قُدرته.
قوله تعالى: {ونزَّلنْا من السماء ماء} وهو المطر {مُبارَكاً} أي: كثير الخير، فيه حياة كل شيء {فأنْبَتْنا به جَنَّاتٍ} وهي البساتين {وحَبَّ الحَصِيدِ} أراد: الحَبَّ الحَصيدَ، فأضافه إلى نَفْسه، كقوله: {لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ} [الواقعة: 95] وقوله: {مِنْ حَبْلِ الوَريدِ} [ق: 16] فالحَبْلُ هو الوَريد، وكما يقال: صلاةُ الأُولى، يراد: الصلاةُ الأُولى، ويقال: مسجدُ الجامع، يراد: المسجدُ الجامعُ، وإنما تضاف هذه الأشياء إلى أنفسها لاختلاف لفظ اسمها، وهذا قول الفراء، وابن قتيبة. وقال غيرهما: أراد حَبَّ النّبتِ الحَصيدِ {والنَّخْلَ} أي: وأنْبَتْنا النخل {باسقاتٍ} وبُسوقها طُولها. قال ابن قتيبة: يقال: بَسقَ الشيءُ يَبْسُقُ بُسوقاً: إذا طال، والنَّضيد: المنضود بعضُه فوق بعض، وذلك قبل أن يتفتَّح، فاذا انشقَّ جُفُّ طلْعه وتفرَّق فليس بنضيدٍ.
قوله تعالى: {زِرْقاً للعِبادِ} أي: أنْبَتْنا هذه الأشياء للرِّزق {وأَحْيَيْنا به} أي: بالمطر {بَلْدَةً مَيْتاً كذلك الخروجُ} من القُبور.
ثم ذكر الأُمم المكذِّبة بما بعد هذا. وقد سبق بيانه إلى قوله: {فحَقَّ وَعيدِ} أي: وجب عليهم عذابي.
{أفعَيِينا بالخَلْقِ الأَوَّلِ} هذا جواب لقولهم: ذلك رَجْعٌ بَعيدٌ. والمعنى: أعَجَزْنا عن ابتداء الخَلْق، وهو الخَلْق الأَوَّل، فنعيا بالبعث وهو الخلق الثاني؟! وهذا تقرير لهم، لأنهم اعترفوا أنه الخالق، وأنكروا البعث {بل هم في لَبْسٍ} أي: في شَكٍّ {مِنْ خَلْقٍ جديدٍ} وهو البعث.


{ولقد خَلَقْنا الإنسان} يعني ابن آدم {ونَعلمُ ما تُوسوِسُ به نَفْسُه} أي: ما تحدِّثه به نفسه. وقال الزجاج: نعلم ما يُكِنُّه في نَفْسه.
قوله تعالى: {ونحن أقربُ إليه} أي: بالعِلْم {من حَبْلِ الوريد} الحَبْل هو الوريد، وإنما أضافه إلى نفسه لِما شرحناه آنفاً في قوله: {وحَبَّ الحَصيدِ} [ق: 9] قال الفراء: والوريد: عِرْقٌ بين الحُلْقوم والعِلْباوَيْن. وعنه أيضاً قال: عرق بين اللَّبَّة والعِلْباوَيْن. وقال الزجاج: الوريد: عِرْق في باطن العُنُق، وهما وريدان، والعِلْباوَان: العَصَبتان الصَّفراوان في مَتْن العُنُق، واللَّبَّتان: مَجرى القُرط في العُنُق. وقال ابن الأنباري: اللَّبَّة حيث يتذبذب القُرْط مِمّا يَقْرُبُ من شحمة الأُذن. وحكى بعض العلماء أن الوريد: عِرْقٌ متفرِّق في البدن مُخالِط لجميع الأعضاء. فلمّا كانت أبعاض الإِنسان يحجب بعضُها بعضاً، أَعْلَمَ أن عِلْمه لا يحجُبه شيءٌ. والمعنى: ونحن أقربُ إليه حين يَتلقَّى المتُلقِّيان، وهما الملَكان الموكَّلان بابن آدم يتلقيَّانِ عَمَلَه وقوله: {إذا يَتلقَّى المُتلقِّيان} أي: يأخُذان ذلك ويُثْبِتانه {عن اليمين} كاتب الحسنات {وعن الشِّمال} كاتب السَّيِّئات. قال الزجاج: والمعنى: عن اليمين قَعيد، وعن الشِّمال قَعيد، فدلَّ أحدُهما على الآخر، فحذف المدلولُ عليه، قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا عِنْ *** دَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقال آخر:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوالِدِي *** بَريئاً ومِنْ أَجْلِ الطَّوِىِّ رَمَانِي
المعنى: كنتُ منه بريئاً. وقال ابن قتيبة: القَعيد بمعنى قاعد، كما يقال: قدير بمعنى قادر، ويكون القعيد بمعنى مُقاعِد، كالأكيل والشَّريب بمنزلة: المُؤاكِل والمُشارِب.
قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ} يعني الانسان، أي: ما يتكلَّم من كلام فيَلْفِظُه، أي: يَرميه من فمه، {إلاّ لَدَيْه رقيبٌ} أي: حافظ، وهو الملَك الموكَّل به، إِمّا صاحب اليمين، وإِمّا صاحب الشمال {عَتيدٌ} قال الزجاج: العَتيد: الثّابِت اللاّزم. وقال غيره: العَتيد: الحاضر معه أينما كان. وروى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كاتِبُ الحَسَنات على يمين الرجلُ، وكاتب السَّيِّئات على يساره، فكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة، وأراد صاحب الشمال أن يكتبها، قال صاحب اليمين: أَمْسِكْ، فيُمْسِك عنه سَبْعَ ساعات، فإن استغفر منها لم يُكتَب عليه شيءٌ، وإن لم يستغفر كُتِب عليه سيِّئة واحدة» وقال ابن عباس: جَعَل اللهُ على ابن آدم حافظين في الليل، وحافظين في النهار. واختلفوا هل يكتُبان جميع أفعاله وأقواله على قولين.
أحدهما: أنهما يكتُبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، قاله مجاهد.
والثاني: أنهما لا يكتبان إلاّ ما يؤجَر عليه، أو يُوزَر، قاله عكرمة. فأمّا مجلسهما، فقد نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشمال، وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة.
وقد روى عليّ كرَّم اللهُ وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مقعد ملَكَيك على ثنيَّتيك، ولسانُك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك» وروي عن الحسن والضحاك قالا: مجلسهما تحت الشعر على الحنك.
قوله تعالى: {وجاءت سَكرْةُ المَوت} وهي غَمرتُه وشِدَّتُه، التي تَغشى الإِنسان وتَغْلِب على عقله وتدُلُّه على أنه ميت {بالحق} وفيه وجهان.
أحدهما: أن معناه: جاءت بحقيقة الموت.
والثاني: بالحق من أمر الآخرة، فأبانت للانسان ما لم يكن بيَّنّا له من أمر الآخرة. ذكر الوجهين الفراء، وابن جرير.
وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه: {وجاءت سَكْرةُ الحق بالموت}، قال ابن جرير: ولهذه القراءة وجهان.
أحدهما: أن يكون الحق هو الله تعالى، فيكون المعنى: وجاءت سَكْرة الله بالموت.
والثاني: أن تكون السَّكْرة هي الموت، أضيفت إلى نفسها، كقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقينِ} [الواقعة 95]، فيكون المعنى: وجاءت السَّكْرة الحَقُّ بالموت، بتقديم {الحَقّ}. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: {وجاءت سَكَراتُ} على الجمع {الحَقِّ بالموتِ} بتقديم {الحَقّ} وقرأ أُبيُّ ابن كعب، وسعيد بن جبير: {وجاءت سَكَراتُ الموت} على الجمع {بالحق} بتأخير {الحق}.
قوله تعالى: {ذلك} أي: فيقال للانسان حينئذ: {ذلك} أي: ذلك الموت {ما كنتَ منه تَحِيدُ} أي: تهرُب وتفِرّ. وقال ابن عباس: تَكره.
قوله تعالى: {ونُفِخ في الصُّور} يعني نفخة البعث {ذلك} اليوم {يومُ الوعيد} أي: يوم وقوع الوعيد.
قوله تعالى: {معها سائق} فيه قولان:
أحدهما: أن السائق: ملَك يسوقها إلى مَحْشَرها، قاله أبو هريرة.
والثاني: أنه قرينها من الشياطين، سمِّي سائقا، لأنه يتبَعها وإِن لم يَحثَّها.
وفي الشهيد ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه ملَك يَشهد عليها بعملها، قاله عثمان بن عفان، والحسن. وقال مجاهد: الملَكان: سائق: وشهيد. وقال ابن السائب: السائق: الذي كان يكتب عليه السَّيَِئات، والشهيد: الذي كان يكتب الحسنات.
والثاني: أنه العمل يَشهد على الإنسان، قاله أبو هريرة.
والثالث: الأيدي والأرجل تَشهد عليه بعمله، قاله الضحاك.
وهل هذه الآيات عامّة، أم خاصَّة؟ فيها قولان:
أحدهما: أنها عامة، قاله الجمهور.
والثاني: خاصة في الكافر، قاله الضحاك، ومقاتل.
قوله تعالى: {لقد كنتَ} أي: ويقال له: {لقد كنتَ في غفلة من هذا} اليوم وفي المخاطَب بهذه الآيات ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الكافر، قاله ابن عباس، وصالح بن كيسان في آخرين.
والثاني: أنه عامّ في البَرِّ والفاجر، قاله حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، واختاره ابن جرير.
والثالث: أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن زيد. فعلى القول الأول يكون المعنى: لقد كنتَ في غفلة من هذا اليوم في الدنيا بكفرك به؛ وعلى الثاني: كنتَ غافلاً عن أهوال القيامة {فكَشَفْنا عنك غِطاءك} الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك.
وقيل معناه: أريناك ما كان مستوراً عنك؛ وعلى الثالث: لقد كنتَ قبل الوحي في غفلة عمّا أُوحي إِليك، فكشفنا عنك غطاءك بالوحي {فبصرُك اليومَ حديدٌ} وفي المراد بالبصر قولان:
أحدهما: البصر المعروف، قاله الضحاك.
والثاني: العِلمْ، قاله الزجاج.
وفي قوله: {اليومَ} قولان:
أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه في الدنيا، وهذا على قول ابن زيد. فأمّا قوله: {حديدٌ} فقال ابن قتيبة: الحديد بمعنى الحادّ. أي: فأنت ثاقب البصر. ثم فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: فبصرك حديدٌ إلى لسان الميزان حين تُوزَن حسناتُك وسيِّئاتُك، قاله مجاهد.
والثاني: أنه شاخص لا يطرف لمعاينة الأخرة، قاله مقاتل.
والثالث: أنه العِلْم النافذ، قاله الزجاج.

1 | 2